إسرائيل أكثر عنصريةً من مجموع قوانينها، ومما تنصّ عليه هذه القوانين وأنظمة تطبيقها وممارستها. بل إن صيغ القوانين القائمة فيها تخفيف شكلي للجوهر وتبرير للسياسات المنبثقة عنه، فالقوانين فيها تجميل منمّق بمفردات ليبرالية للجوهر. وقانون القومية يكشف الجوهر بشكل جليّ.
إن الحجّة المركزية التي أنطلق منها في ادعائي المذكور، هي أن القوانين كلّها، كما الدولة الرسمية، تتعامل مع أنها في حلِّ من سبق قيامها والإعلان الرسمي عنها ووثيقة استقلالها، وهي وثيقة إعلان المستعمر الصهيوني عن إنجاز مشروعه، ولا توجد وثيقة مرجعية تعبّر أكثر منها عن الصهيونية ومشروعها الذي انتصر في فلسطين.
إسرائيل وقوانينها تتعامل كتحصيل حاصل مع نكبة الشعب الفلسطيني التي أحدثتْها بقيامها، ومع احتلال فلسطين عام 1947 ومع التهجير والاقتلاع والمجازر والتطهير العرقي وهدم المدن والقرى والاستيلاء على أملاك وثروة الشعب الفلسطيني الفردية والجماعية ونهبها واستيطان فلسطين الإحلالي.. إنها تتعامل مع كل ذلك باعتبارها إياه خارجها وخارج مسؤوليتها وخارج قوانينها، وحتى خارج ما نعتبره نحن عنصريتها الاستعمارية. وعليه ليس من الصحيح أن يتعامل الفلسطيني مع عنصرية إسرائيل وهويتها بالاعتماد على ما فيها من قوانين تمييزية، بل إن الأساس الذي تقوم عليه استعماري استيطاني إحلالي تنبثق عنه المنظومة القانونية.
هناك قوانين ومنظومات ونصوص مرجعيّة أبعد أثراً من "قانون القومية" وبالذات "قانون العودة" و"قانون المواطنة" و"قانون الصندوق القومي اليهودي" (الكيرن كييمت ليسرائيل) وقوانين الأراضي والملكية والتشغيل والإسكان، ناهيك عن أنظمة الطوارئ الانتدابية الإدارية وتعاقد الدولة مع "الوكالة اليهودية" وأنظمة التخطيط و"وثيقة الاستقلال"، وما كشف عنه من وثائق ومخططات تطهير عرقي واقتلاع وتهويد مثل "وثيقة كينغ" ومخطط تهويد النقب أو لاحقًا "قانون برافر".
بإمكان النواب العرب الفلسطينيين في الكنيست الإسرائيلي مناقشة مقترح قانون القومية، لكن هنالك وجهاً آخر وهو أن القانون المقترح ليس موضوعاً يخضع للكنيست، ومناقشة مضمونه ليست جوهر الأمور، بل أن الإجراء هنا مهم، وكذلك المرجعيات وكيف نتعامل مع أنفسنا.
من حيث المبدأ فإن قانون القومية المقترح ليس شأناً برلمانياً إسرائيلياً، وهو خارج صلاحيات الكنيست، فلو اعتمدنا التوجه البرلماني اللبرالي فالقانون يدعو لما يمكن اعتباره تغيير طابع نظام الحكم والدولة، في حين إن صلاحيات البرلمان أو "منتخبي الجمهور" تقع في مجال إدارة نظام الحكم والدولة والتشريع أي في مجال السياسات، لكن ليس تغيير طابع نظام الحكم المنبثقين عنه، فهذه قضايا في حالتنا خاضعة للجمهور وليس لمنتخبي الجمهور..
إما إذا اعتمدنا التوجّه التحرري الوطني الفلسطيني أو العربي، فإن الصراع على فلسطين لا يحسمه قانون المستعمر أو قانون إسرائيل. ومسألة الإجراء كما ذكر هامّة جداً في هذا السياق، كما أن إسقاط الإجراء وشرعيته لا تقل أهميةً عن إسقاط مضمون القانون بل قد تفوقه.
وحين يشارك أعضاء كنيست عرب في التصويت عليه، ففي ذلك مصادقة ضمنيّة على الإجراء، وبالطبع لا يطعن أحد في مواقفهم.. لكن في المصادقة على الإجراء تكمن إشكالية الموقف. إن من شأن إسقاط شرعية الإجراء أن يدعّم مواقفنا وموقعنا كجماهير وشعب. كما أن نزع شرعية إجراء برلماني أو تشريعي ضمن كيان استعماري عنصري هي بمقاطعته وليس بمعارضته.. لأن المعارضة هي ضمن الإجراء.
وباعتقادي كان الموقف أقوى لو أعلن أعضاء الكنيست العرب مسبقاً عن مقاطعتهم لمجمل جلسات الكنيست التي ستناقش الموضوع، بل إعلان اعتبارهم الإجراء كله غير شرعي، وإحالة مسؤولية ومرجعية مواجهته إلى لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية وهي تبقى الإطار الكياني لهذا الجزء من الشعب الفلسطيني لتقوم بالمواجهة الشعبية المحلية والدولية مع إسرائيل كصراع بين كيانين عربي فلسطيني وإسرائيلي، وللأسف فإن م.ت.ف غير مؤهلة للقيام بهذا الدور الكفاحي التحرري بوضعيتها الحالية.
الموقف من "قانون القومية" ليس صراعاً على الديمقراطية الإسرائيلية ولا فيها، وإنّما صراع ضد الديمقراطية الإسرائيلية وخارج أطرها التشريعية. فالديمقراطية الإسرائيلية هي صهيونية وديمقراطية المستعمر على الرغم من هامش الحريات الجدّي الذي تتيحه، لكن الثمن منذ النكبة وخلالها وحتى اليوم أكبر بما لا يضاهى من امتيازات الديمقراطية وهامشها، مع العلم أن ما هو متاح لنا من حريات هو بالأساس مردود مسيرة جماهيرنا الكفاحية وضرورات المشروع الصهيوني.. وفي هذا السياق تأتي الدعوة لمقاطعة الإجراء التشريعي وليس معارضته.. فالكنيست سيكون أضعف إذا قاطع النواب العرب وسيكون أقوى بمجرد المشاركة.. وليس ما أقصده مأخذاً على النواب العرب وإنما تصّور لاستراتيجية مختلفة وبرأيي أقوى. وإذا كان نواب إسرائيليون ديمقراطيون أو "يساريون" يتماثلون مع الموقف والمسلك المتوخى فبإمكانهم أن يقاطعوا الإجراء، وليس الشّد بالنواب العرب للخضوع للإجراء..
وهناك منحى آخر ممكن، وهو أنه رغم إشكالات "لجنة المتابعة" وغياب الأفق النهضوي الجماعي، فكان بالإمكان أن يتحوّل النقاش على القانون إلى رافعة وحدث مفصلي باتجاه رفع سقف الكفاح الوطني والإعلان عن انتخابات مباشرة للجماهير العربية للجنة المتابعة خلال عام أو عامين أو مجرّد بدء الإجراء لذلك. فهذه وسيلة استنهاض عام وانبعاث للإطار الكياني الوحيد لشعبنا الفلسطيني في الداخل.
قد يقول قائل إن هذا يعني أن "نلعب في ملعب نتانياهو" أو " هذا ما يريده اليمين" .. وهذا طرح منطقي.. لكن ما يضمنه الموقف الذي أطرحه، هو تغيير في أدوات لعبة ميزان القوة والهيمنةـ وتحرير أدوات اللعبة الكفاحية وتحييد لأدوات الهيمنة الصهيونية. ثمّ هل نحن مع ما تطرحه ما يسمى "قوى الاعتدال" من رئيسة حزب الحركة (ليفني) أو رئيس حزب "يش عتيد (لبيد) أو رئيس حزب العمل (هرتسوغ) الذين ينطلقون من عدم "الحاجة" للقانون وكونه "مسيئاً للصهيونية"، وحتى حزب ميرتس "اليساري" يعتمد "وثيقة استقلال إسرائيل" كمرجعيته الأخلاقية !! فهل نحن مع "قوى الاعتدال"؟ لا .. نحن ضد هؤلاء وهؤلاء فقوى "الاعتدال" تحمي الصهيونية أكثر من نتانياهو.. ونحن صراعنا مع الصهيونية ومشروعها في فلسطين.. نحن ضحايا "الديمقراطية الإسرائيلية" نحن شعب، ولا نملك الحق أن نرهن سلوكنا السياسي ومواقفنا لتكتيكات السياسة الإسرائيلية وتفاعلاتها الداخلية.
كما ولدينا نماذج مجرّبة لمواجهة "الدولة اليهودية" ومشاريع التهويد.. ومنها مقاومة جماهير شعبنا لمخطط تهويد الجليل (وثيقة كينغ) بإضراب يوم الأرض عام 1976، الذي ردع مخططات التهويد والمصادرة وزوّد جماهير شعبنا بأدوات كفاحية وزخم نضالي نشأت عليه الأجيال حتى اليوم وتراكمت ثقافة كفاحية محرّرة. وفي يوم الأرض أسقطنا "قانون القومية" عقوداً قبل أن يطرح في الكنيست للتشريع. فالقوانين الاقتلاعية والتهويدية الإسرائيلية يجري تطبيقها كسياسات قبل أن يجري تشريعها. وعلى غرار يوم الأرض لدينا المثال القومي الآخر وهو الحراك الشعبي والشبابي لإسقاط مخطط اقتلاع الوجود العربي في النقب (قانون برافر).
وهناك حلبة أخرى لمواجهة الصهيونية وكيانها وقوانينه "القومية"، وهي الإنجازات المتراكمة في العمل أمام المحافل الدولية الرسمية وغير الرسمية والتي نتحرر فيها من معادلة قواعد اللعبة الإسرائيلية، وأحد أكثر هذه الأحداث أثراً هو المؤتمر الدولي ضد العنصرية (ديربان 2001) حيث أسهمنا بشكل ملموس وكبير الأثر في قطاع المنظمات الأهلية والحقوقية، في عزل إسرائيل ودفعها للانسحاب من المؤتمر الأممي وهزيمتها فيه، وفضح طابعها العنصري الاستعماري كدولة وكإيديولوجيا صهيونية، وكسبنا أوسع تأييد عالمي وداخل مفوضية حقوق الإنسان في الأمم المتحدة منظّمة المؤتمر، وشكّل ذلك الحدث الضخم الأساس الذي انطلقت منه حملات المقاطعة العالمية لإسرائيل والداعية إلى فرض العقوبات عليها، ولمجمل حركة التضامن العالمي المتجدّدة مع الشعب الفلسطيني، لتصبح إسرائيل إلى حدّ كبير هي المحاصَرة والملاحَقة، وليطرح السؤال دولياً حول شرعيتها وذلك تحت شعار "الصهيونية عنصرية إسرائيل، أبارتهايد".
التحدّي الأساسي ينبغي أن يكون ليس ليهودية إسرائيل بل لكونها كياناً استعمارياً صهيونياً عنصرياً، في حين ينبثق عن هذا الجوهر طابع الدولة اليهودي وقانون القومية ومجمل القوانين والممارسات، ويجري استخدام "اليهودية" في خدمة الصهيونية العنصرية. لكن الواقع العربي الواسع والفلسطيني المأزوم والمهزوم يواجه ولمصلحة أنظمته تفاصيل السياسة وليس جوهر إسرائيل. لكن الواقع الشعبي مأزوم ومهزوم كما الأنظمة..
هذا أوان الكفاح الشعبي، وهذا أوان حركة وحراك مناهضة لتطبيع إسرائيل، لكن أين الواقع العربي وبالذات الفلسطيني الرسمي من ذلك؟! فجماهير شعبنا الفلسطيني في الداخل سوف تواجه إسرائيل وتسقط قوانين المستعمر نيابة عن "النفس.. وعن الواقع العربي كله" !!